بقلم: د. عبدالرحيم الشريف
دكتوراه في التفسير وعلوم القرآن الكريم
أولاً: عرض الشبهة:
القمر نور للسماوات السبع : " أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ، وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا " - نوح : ( 71 : 15-16)
فهل حقاً ينير القمر السماوات السبع الطباق !!
و هل يضيء القمر المجرة و الكون المعتم بنوره ؟؟؟
و ماذا عن الشمس المعطوفة عليه ؟؟؟ هل هي أيضاً تنير الطبقات السبع ؟؟
ثانياً: سياق الآيات الكريمة:
الآيات الكريمة هي من خطاب سيدنا نوح عليه السلام إلى قومه..
حيث قال كما ورد في سورة نوح: " أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) ".
ومن ثم فهي ليست من الحقائق التي بينها القرآن الكريم، وإنما ذكرها على سبيل الحكاية.
ولكن هذه الحكاية حق، ولا تتصادم مع الحقائق المنطقية والعلم الصحيح كما سيتبين.
ثالثاً: معنى الآية من حيث اللغة يخالف الفهم الذي فهمه مثير الشبهة:
يبدو أن مثير الشبهة أمي يجهل معاني اللغة العربية، أو في أحسن الأحوال هو أعجمي.. لكنه لا يعذر بجهله للغة ينتقد كتاباً هو أساسها وعمودها.
وإنما العلم بالتعلم، فلو أن مثير الشبهة رجع إلى كتب اللغة والمعاجم وتفسير القرآن لعرف الجواب الصحيح، ولم يوقِع نفسه في هذا الخلط.
ذكر الكل وإرادة الجزء هو من البلاغة المعروفة في اللغة العربية وهو من باب المجاز المرسل، مثل قولك: سكنتُ مدينة دمشق، وأنت لم تسكن إلا جزءاً يسيراً منها لا يقارَن مع حجمها.
قال البغوي في تفسيره نقلاً عن الحسن البصري: " " جَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا " يعني: في السماء الدنيا كما يقال: أتيت بني تميم، وإنما أتى بعضهم ". [1]
وقال الآلوسي: " منور الوجه الأرض في ظلمة الليل وجعله فيهن مع أنه في إحداهن وهي السماء الدنيا كما يقال زيد في بغداد وهو في بقعة منها ". [2]
وذكر الرازي هذا التساؤل في تفسيره فقال: " كيف قال : " وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً " والقمر ليس فيها بأسرها بل في السماء الدنيا؟ والجواب : هذا كما يقال السلطان في العراق ليس المراد أن ذاته حاصلة في جميع أحياز العراق بل إن ذاته في حيز من جملة أحياز العراق فكذا ههنا ". [3]
- كما أن اللغة العربية تعرف ما يسمى (تناوب معاني حروف الجر)، فـ (في) قد تأتي بمعنى (مع).
" قال قطرب : فيهنّ بمعنى معهنّ ، أي : خلق القمر والشمس مع خلق السموات والأرض ، كما في قول امرىء القيس :
وهل ينعمن من كان آخر عهده ... ثلاثين شهراً في ثلاثة أحوال ". [4]
- والطاهر بن عاشور المفسر اللغوي المعروف يرى لـ (في) معنى آخر تقبله اللغة العربية فيقول: " اعتبار القمر من السماوات ـ أي الكواكب على الاصطلاح القديم المبني على المشاهدة ـ لأن ظرفية ( في ) تكون لوقوع المحوي في حاويه مثل الوعاء ، وتكون لوقوع الشيء بين جماعته ، كما في حديث الشفاعة " وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها " ، وقول النميري :
تَضوَّعَ مسكاً بطن نَعْمَانَ أنْ مشتْ
به زينب في نِسْوَةٍ خَفِرَاتِ
و (القمر) كائن في السماء المماسة للأرض وهي المسماة بالسماء الدنيا ، والله أعلم بأبعادها ".
* هذا بالنسبة لمعنى (في) أما المعنى الذي يفيده (نوراً) فنقول:
" نوراً " : في الآية جاءت نكرة بدليل حذف لام التعريف ودليل التنوين آخرها.
وتنكير (نوراً) يفيد أن القمر نور من جملة أنوار كثيرة في السماوت (الكون) وليس هو النور الوحيد.
مثال:
- قلم: نكرة.
- القلم: معرفة.
فلو قلت:
- " دخلت الغرفة فوجدت قلماً ثم كتبت بقلمٍ ثم أعطيتك قلماً ". لكان المعنى المتبادر إلى الذهن ثلاثة أقلام مختلفة.
ولو قلت:
- " دخلت الغرفة فوجدت القلم ثم كتبت بالقلم ثم أعطيتك القلم ". لكان المعنى المتبادر إلى الذهن وجود قلم واحد معهود في ذهنك.
وهكذا نفهم الآية الكريمة:
القمر: نور للسماوات والأرض، والشعرى: نور للسماوات والأرض، وسهيل: نور للسماوات والأرض، والزهرة: نور للسماوات والأرض..
وليس أي واحد منها هو النور الوحيد أو الأعظم للسماوات والأرض.
رابعاً: الإجابة العلمية: هل يموت الضوء ؟
إذا أصدرتَ شعاع ضوءٍ من مصدر إضاءة فهل سيتلاشى الضوء أم يبقى؟
لو انعكس ضوء ذلك الشعاع عن مرآة، فهل سيتلاشى ذلك الضوء أم يبقى إلى مالانهاية؟
هناك خلاف بين علماء الفيزياء في ذلك.. وأكثرهم يقولون إن الضوء لا يموت ولكنه يتشتت بسبب العوالق الموجودة في الهواء، أما في الفضاء فهم مختلفون فيه أيضاً ومرد خلافهم هو عدم حسمهم لحد الكون: هل الكون مفتوح أم مغلق، وهل الثقب الأسود هو الذي يمتص الضوء فقط أم غيره؟
ونحن في الإسلام عندنا أن الكون محدود، لأنه مخلوق مربوب.. والذي لاحدَّ له هو وحده الله سبحانه وتعالى.
وعلى كل حال، لو كنت سائرا في الليل تحت ضوء النجوم، فكل نجم من النجوم وكل كوكب من الكواكب (مهم صغر حجم إضاءته أو انعكاس الضوء عنه) فهو يسهم في النور الذي يهديك الطريق ليلاً..
وحال انعكاس الضوء عن القمر كذلك بالنسبة لنا، فهو يسهم في إنارة السماء الدنيا التي هي جزء من السماوات السبع (كما قال العلماء).
والله أعلم.
للمناقشة: د. عبدالرحيم الشريف
rhim75@hotmail.com
ــــــــــــــــــــ
[1] تفسير البغوي 8/231
[2] روح المعاني 21/319
[3] مفاتيح الغيب16/57
[4] فتح القدير، الشوكاني 7/324
دكتوراه في التفسير وعلوم القرآن الكريم
أولاً: عرض الشبهة:
القمر نور للسماوات السبع : " أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ، وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا " - نوح : ( 71 : 15-16)
فهل حقاً ينير القمر السماوات السبع الطباق !!
و هل يضيء القمر المجرة و الكون المعتم بنوره ؟؟؟
و ماذا عن الشمس المعطوفة عليه ؟؟؟ هل هي أيضاً تنير الطبقات السبع ؟؟
ثانياً: سياق الآيات الكريمة:
الآيات الكريمة هي من خطاب سيدنا نوح عليه السلام إلى قومه..
حيث قال كما ورد في سورة نوح: " أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) ".
ومن ثم فهي ليست من الحقائق التي بينها القرآن الكريم، وإنما ذكرها على سبيل الحكاية.
ولكن هذه الحكاية حق، ولا تتصادم مع الحقائق المنطقية والعلم الصحيح كما سيتبين.
ثالثاً: معنى الآية من حيث اللغة يخالف الفهم الذي فهمه مثير الشبهة:
يبدو أن مثير الشبهة أمي يجهل معاني اللغة العربية، أو في أحسن الأحوال هو أعجمي.. لكنه لا يعذر بجهله للغة ينتقد كتاباً هو أساسها وعمودها.
وإنما العلم بالتعلم، فلو أن مثير الشبهة رجع إلى كتب اللغة والمعاجم وتفسير القرآن لعرف الجواب الصحيح، ولم يوقِع نفسه في هذا الخلط.
ذكر الكل وإرادة الجزء هو من البلاغة المعروفة في اللغة العربية وهو من باب المجاز المرسل، مثل قولك: سكنتُ مدينة دمشق، وأنت لم تسكن إلا جزءاً يسيراً منها لا يقارَن مع حجمها.
قال البغوي في تفسيره نقلاً عن الحسن البصري: " " جَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا " يعني: في السماء الدنيا كما يقال: أتيت بني تميم، وإنما أتى بعضهم ". [1]
وقال الآلوسي: " منور الوجه الأرض في ظلمة الليل وجعله فيهن مع أنه في إحداهن وهي السماء الدنيا كما يقال زيد في بغداد وهو في بقعة منها ". [2]
وذكر الرازي هذا التساؤل في تفسيره فقال: " كيف قال : " وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً " والقمر ليس فيها بأسرها بل في السماء الدنيا؟ والجواب : هذا كما يقال السلطان في العراق ليس المراد أن ذاته حاصلة في جميع أحياز العراق بل إن ذاته في حيز من جملة أحياز العراق فكذا ههنا ". [3]
- كما أن اللغة العربية تعرف ما يسمى (تناوب معاني حروف الجر)، فـ (في) قد تأتي بمعنى (مع).
" قال قطرب : فيهنّ بمعنى معهنّ ، أي : خلق القمر والشمس مع خلق السموات والأرض ، كما في قول امرىء القيس :
وهل ينعمن من كان آخر عهده ... ثلاثين شهراً في ثلاثة أحوال ". [4]
- والطاهر بن عاشور المفسر اللغوي المعروف يرى لـ (في) معنى آخر تقبله اللغة العربية فيقول: " اعتبار القمر من السماوات ـ أي الكواكب على الاصطلاح القديم المبني على المشاهدة ـ لأن ظرفية ( في ) تكون لوقوع المحوي في حاويه مثل الوعاء ، وتكون لوقوع الشيء بين جماعته ، كما في حديث الشفاعة " وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها " ، وقول النميري :
تَضوَّعَ مسكاً بطن نَعْمَانَ أنْ مشتْ
به زينب في نِسْوَةٍ خَفِرَاتِ
و (القمر) كائن في السماء المماسة للأرض وهي المسماة بالسماء الدنيا ، والله أعلم بأبعادها ".
* هذا بالنسبة لمعنى (في) أما المعنى الذي يفيده (نوراً) فنقول:
" نوراً " : في الآية جاءت نكرة بدليل حذف لام التعريف ودليل التنوين آخرها.
وتنكير (نوراً) يفيد أن القمر نور من جملة أنوار كثيرة في السماوت (الكون) وليس هو النور الوحيد.
مثال:
- قلم: نكرة.
- القلم: معرفة.
فلو قلت:
- " دخلت الغرفة فوجدت قلماً ثم كتبت بقلمٍ ثم أعطيتك قلماً ". لكان المعنى المتبادر إلى الذهن ثلاثة أقلام مختلفة.
ولو قلت:
- " دخلت الغرفة فوجدت القلم ثم كتبت بالقلم ثم أعطيتك القلم ". لكان المعنى المتبادر إلى الذهن وجود قلم واحد معهود في ذهنك.
وهكذا نفهم الآية الكريمة:
القمر: نور للسماوات والأرض، والشعرى: نور للسماوات والأرض، وسهيل: نور للسماوات والأرض، والزهرة: نور للسماوات والأرض..
وليس أي واحد منها هو النور الوحيد أو الأعظم للسماوات والأرض.
رابعاً: الإجابة العلمية: هل يموت الضوء ؟
إذا أصدرتَ شعاع ضوءٍ من مصدر إضاءة فهل سيتلاشى الضوء أم يبقى؟
لو انعكس ضوء ذلك الشعاع عن مرآة، فهل سيتلاشى ذلك الضوء أم يبقى إلى مالانهاية؟
هناك خلاف بين علماء الفيزياء في ذلك.. وأكثرهم يقولون إن الضوء لا يموت ولكنه يتشتت بسبب العوالق الموجودة في الهواء، أما في الفضاء فهم مختلفون فيه أيضاً ومرد خلافهم هو عدم حسمهم لحد الكون: هل الكون مفتوح أم مغلق، وهل الثقب الأسود هو الذي يمتص الضوء فقط أم غيره؟
ونحن في الإسلام عندنا أن الكون محدود، لأنه مخلوق مربوب.. والذي لاحدَّ له هو وحده الله سبحانه وتعالى.
وعلى كل حال، لو كنت سائرا في الليل تحت ضوء النجوم، فكل نجم من النجوم وكل كوكب من الكواكب (مهم صغر حجم إضاءته أو انعكاس الضوء عنه) فهو يسهم في النور الذي يهديك الطريق ليلاً..
وحال انعكاس الضوء عن القمر كذلك بالنسبة لنا، فهو يسهم في إنارة السماء الدنيا التي هي جزء من السماوات السبع (كما قال العلماء).
والله أعلم.
للمناقشة: د. عبدالرحيم الشريف
rhim75@hotmail.com
ــــــــــــــــــــ
[1] تفسير البغوي 8/231
[2] روح المعاني 21/319
[3] مفاتيح الغيب16/57
[4] فتح القدير، الشوكاني 7/324